اتفاق القاهرة، بالصيغة التي قدمها غروسي، كان يهدف إلى تلبية الشرط الأول. لكن إنكار عراقجي الفوري لبنود الاتفاق يكشف أن النظام لا ينوي تقديم تعاون حقيقي.
میدل ایست اونلاین- منی سالم الجبوري:
النظام الايراني يقدم الرواية ونقيضها في تفسيرات خاصة لاي اتفاقالنظام الايراني يقدم الرواية ونقيضها في تفسيرات خاصة لاي اتفاق
في العديد من الاتفاقات المهمة التي قام النظام الإيراني بإبرامها بخصوص برنامجه النووي، كان هناك دائمًا اختلاف بين التفسير الذي يقدمه النظام وبين التفسير المقدم من الجانب الآخر. وقد ظهر ذلك بوضوح في تفسير طهران للاتفاق النووي الذي عقدته مع الترويكا الأوروبية عام 2004، وكذلك للاتفاق النووي الذي تم إبرامه مع مجموعة 5+1 في صيف عام 2015، إذ كان التفسير الإيراني يختلف بصورة أو بأخرى عن التفسيرين الآخرين، رغم أنه يجب لفت الانتباه إلى أن طهران لم تكن تحاول الاجتهاد في تفسير بنود الاتفاقين المذكورين وفق فهمها كما يبدو، وإنما كان جهدًا موجَّهًا للداخل الإيراني في سبيل التأكيد على أن النظام قد أبرم الاتفاقين المذكورين من موقع القوة لا الضعف.
ويبدو أن ولع طهران بتقديم تفسير مختلف بعض الشيء عن تفسير الطرف الآخر في الاتفاق قد تكرر أيضًا فيما يتعلق بالاتفاق النووي الأخير الذي تم التوقيع عليه في القاهرة بين رافائيل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبين عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني. فقد اتضح بعد الإعلان عن توقيع الاتفاق المذكور أن هناك تباينًا بين التفسيرين.
في شهادته أمام مجلس محافظي الوكالة يوم الأربعاء، قدم رافائيل غروسي رواية متفائلة وواضحة للاتفاق الذي وقعه مع عراقجي، مؤكدًا أن “الوثيقة الفنية الموقعة تشمل جميع المنشآت والمواقع في إيران”.
والأهم من ذلك، أضاف غروسي أن الاتفاق “يأخذ في الاعتبار أيضًا الإبلاغ اللازم عن المنشآت التي تعرضت للهجوم، بما في ذلك المواد النووية الموجودة فيها”. وقد شدد على أن الاتفاق يوفر “فهمًا واضحًا لإجراءات الإبلاغ عن عمليات التفتيش وتنفيذها”، بما يتوافق تمامًا مع اتفاقية الضمانات الشاملة. ورغم وصفه للاتفاق بأنه “خطوة في الاتجاه الصحيح”، أقر بوجود “الكثير من القضايا التي لا تزال عالقة”.
ويبدو أن عباس عراقجي كان ينتظر تصريحات غروسي بخصوص اتفاق القاهرة على أحرّ من الجمر. وقد تبين ذلك بعد ساعات قليلة فقط من تصريحات غروسي المتفائلة، إذ ظهر عراقجي على تلفزيون النظام الرسمي ليقدم رواية مناقضة تمامًا، في محاولة للتقليل من شأن التنازلات التي قدمها النظام.
وقال بشكل قاطع “بناءً على هذا الاتفاق، لن يتم منح أي وصول لمفتشي الوكالة في الوقت الحالي”، باستثناء الوصول المحدود الذي كان قائمًا بالفعل في بوشهر. والأخطر من ذلك أنه نسف جوهر الاتفاق بقوله إن “طبيعة الوصول الذي سيتم منحه يجب أن تكون موضع تفاوض في وقتها”، وهو ما يتناقض بشكل مباشر مع تأكيد غروسي على وجود “إجراءات واضحة” متفق عليها. وحاول عراقجي تصوير التراجع على أنه نصر، مدعيًا أن الاتفاق “يعترف بوجود ظروف جديدة” وبـ “المخاوف الأمنية المشروعة لإيران”.
الملاحظة التي يجب أخذها بعين الاعتبار هنا هي أن لعبة التصريحات المتناقضة هذه تجري في وقت حرج للغاية بالنسبة للنظام. فقد قامت الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا، فرنسا، وألمانيا) بتفعيل “آلية الزناد” التي ستعيد تلقائيًا جميع عقوبات الأمم المتحدة بحلول نهاية سبتمبر. وأعلنت هذه الدول أنها لن توقف العملية إلا إذا استجابت إيران لثلاثة شروط واضحة: السماح باستئناف عمليات التفتيش، وتقديم كشف حساب دقيق لمخزونها من اليورانيوم المخصب، وإجراء محادثات نووية مع الولايات المتحدة.
من هنا، فإن اتفاق القاهرة، بالصيغة التي قدمها غروسي، كان يهدف إلى تلبية الشرط الأول. لكن إنكار عراقجي الفوري لبنود الاتفاق يكشف أن النظام لا ينوي تقديم تعاون حقيقي، بل يسعى فقط إلى إعطاء انطباع بالتعاون لكسب الوقت وشق الصف الدولي. وقد عبرت أوساط دبلوماسية عن شكوكها، حيث وصفت وكالة “رويترز” الاتفاق بالغامض، بينما حذر دبلوماسيون من أن “الشيطان يكمن في التفاصيل” التي لم تُعلن بعد. إنها استراتيجية “القط والفأر” الكلاسيكية: تقديم تنازلات شكلية في العلن، والتملص منها في الممارسة، على أمل الهروب من عواقب العزلة الدولية الكاملة.
النظام الإيراني، من حيث تقديمه لتفسير مختلف للاتفاقات الدولية التي يعقدها، ولا سيما تلك التي تخص قضايا حساسة، يصر دائمًا على تفسيراته حتى وإن اعتبرها الجميع مغالطة. وهو بهذا يمكن مقارنته، بل وتشبيهه إلى حد ما، بوزير الدعاية النازي غوبلز صاحب المقولة الشهيرة “أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس”، حيث إن النظام الإيراني وكأن لسان حاله يقول “غالط ثم غالط حتى تحقق هدفك”.








