موقع المجلس:
تشهد إيران تحولاً ديمغرافيّاً واجتماعياً خطيراً بات يوصف في الإعلام المحلي بظاهرة “لاجئي المياه”، حيث تدفع موجات الجفاف الحاد وسوء إدارة الموارد المائية آلاف العائلات إلى الهجرة من المحافظات الوسطى والجنوبية المتصحّرة نحو السواحل الشمالية، خصوصاً جيلان ومازندران. ويرى خبراء أن هذه الظاهرة لا تقف عند حدود أزمتَي البيئة والاقتصاد، بل تكشف انهياراً بنيوياً يهدد استقرار النظام السياسي الذي يفقد تدريجياً قدرته على توفير أساسيات الحياة للمواطنين.

احتجاجات على سرقة المياه: إشارات انهيار تتوسع
في 18 نوفمبر 2025، اتسعت رقعة الاحتجاجات الشعبية التي تركزت حول أزمة المياه والمعيشة، حيث خرج مواطنون وطلاب في كهكيلويه وبوير أحمد وجهارمحال وبختياري للتنديد بسرقة المياه وبناء السدود التي دمّرت الأنظمة البيئية والزراعية.
الظهور الرسمي لمصطلح “لاجئي المياه”
في سابقة لافتة، اعترفت صحيفة “آسيا” الحكومية في 23 نوفمبر 2025 بواقع النزوح البيئي، مستخدمة لأول مرة مصطلح “لاجئو المياه”. وأشارت الصحيفة إلى تدفّق مستمر للعائلات من محافظات منكوبة بالجفاف نحو شمال البلاد، حيث امتلأت أحياء كاملة بالوافدين الجدد الفارّين من جفاف الآبار والعواصف الترابية وانهيار النشاط الزراعي في مناطقهم الأصلية.

تحذيرات دولية وتأكيدات داخلية
لطالما أشارت المنظمات الدولية إلى هذه المخاطر. ففي تقرير عام 2024، أكد “معهد سياسات الهجرة” أن الجفاف المتصاعد يدفع حركة نزوح من الهضبة الوسطى إلى المناطق الشمالية الأكثر رطوبة. وتظهر البيانات الحالية أن سعة خزانات المياه في محافظات مثل كردستان لا تتجاوز 38% رغم تاريخها المائي الغني.
داخلياً، يعترف المسؤولون بالأزمة دون تقديم حلول. فقد أعلن نصر الله بيجمان فر، رئيس لجنة المادة 90 في البرلمان، وجود احتمال لتقنين المياه في طهران ومشهد، مشيراً إلى جفاف سد “دوستي” الذي يمثل شرياناً أساسياً لمدينة مشهد.
اقتراب “يوم الصفر” المائي: الإفلاس البيئي
تقارير اقتصادية محلية كـ “اقتصاد نيوز” تحذّر من أن إيران تقترب من “الإفلاس المائي”. وتشير إلى أن طهران قد تواجه سيناريو “يوم الصفر” – أي نفاد المياه من الشبكات – إذا استمر سوء الإدارة. وفي اعتراف نادر، أكد النائب علي رضا نساري أن المشكلة ليست مناخية بحتة، بل ناجمة عن فشل إداري مزمن وسياسات تخطيطية كارثية، خصوصاً في بناء السدود وحفر الآبار الجوفية.
كما نقلت صحيفة “واشنطن تايمز” عن تقرير لـ“منتدى الشرق الأوسط” بأن فساد “مافيا المياه” التابعة للنظام دفع إيران نحو مرحلة “الإفلاس المائي الدائم”.
الجغرافيا السياسية للانهيار: تلاشي العمق الاستراتيجي للنظام
تكتسب الهجرة البيئية أبعاداً سياسية خطيرة، إذ تفقد الحكومة تدريجياً مناطق نفوذها التقليدية في المحافظات الداخلية مثل أصفهان ويزد وسيستان وبلوشستان. هذه المناطق، التي كانت تشكل “حزاماً هادئاً” نسبياً، تواجه اليوم انهياراً زراعياً وبنيوياً غير مسبوق.
ومع مغادرة آلاف العائلات، يتقلص العمق الاستراتيجي للنظام، ويُسقط أحد أبرز رواياته الدعائية حول “التنمية”، إذ لم يعد السكان يبحثون عن تحسين معيشتهم، بل عن مياه صالحة للشرب.
الشمال… الملاذ الذي يتحول إلى أزمة جديدة
ورغم كون الشمال مقصداً للنازحين، إلا أنه غير قادر على استيعاب هذا التدفق المتزايد. فمحافظتا جيلان ومازندران تعانيان أصلاً من بنية تحتية ضعيفة، ونزاعات مزمنة على الأراضي، وضغط كبير على الموارد الطبيعية. ويحذر خبراء البيئة من أن استمرار هذه الهجرة قد يدفع الشمال نفسه إلى مرحلة الانهيار البيئي، بما يحوّله من “ملاذ” إلى بؤرة توتر جديدة.
أزمة وجودية تضرب جوهر النظام
تكشف ظاهرة “لاجئي المياه” عن انهيار متسارع في الاقتصاد السياسي الإيراني. فبينما يستطيع النظام قمع الاحتجاجات أو فرض التقنين، لا يمكنه إجبار المواطنين على البقاء في مناطق لم تعد قابلة للحياة. وعندما يتحول الماء – أساس البقاء – إلى سبب للهجرة والنزوح، تصبح أزمة النظام أكبر من أزمة المناخ: إنها أزمة شرعية، وتهديد مباشر لاستمراره.








