نزار السامرائي :لم يشأ أحد أن يسأل عن خط رحلة طائرة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، حينما كانت تحلق من لحظة إقلاعها من مطار طهران، وحتى حطت في مطار بغداد، أو خط مرور موكبه من المطار إلى المنطقة الخضراء بالرصافة والتي تقع على الضفة الاخرى لدجلة، ذلك أن هذا السؤال إذا ما طرح فقد ينم عن سذاجة سياسية مفرطة، فالكل يعرف أن سيطرة الأمريكيين على أجواء العراق، أكبر بكثير من سيطرتهم على أرضه، رغم احتفاظهم هم وحلفاؤهم بحوالي ربع مليون عسكري فوق أراضيه، معنى هذا أن طائرة السيد نجاد كانت تواصل رحلتها باطمئنان شديد تحت رعاية أجهزة الرصد الأمريكية،
وحتى حينما حطت الطائرة على أرض المطار، فإن القوات الأمريكية التي تتخذ منه قاعدة كبيرة لها، كانت وباقصر مدى لبندقية جندي أمريكي أو من الشركات الأمنية المتوزعة في أرجاء المطار المختلفة ، تستطيع التقاطه ولكنها وفرت له الحماية الكاملة من جهة ، وتعاملت من الناحية السياسية مع الملف بتجاهل ظاهر، لما يمكن أن يرتبه تعامل كهذا من خسارة مبدئية، وحرص على تعامل ميداني من تحت الطاولة مع القادم العدو الذي ما من صداقته بدّ.
وتضاربت الآراء حول الزيارة ، ولكن نجاد اختزل الكثير منها فعدّها تحديا للوجود الأمريكي في العراق ، حينما طالب علنا من الولايات المتحدة بالرحيل من العراق ، ولكن هذا لم يعد يصمد مع المؤشرات المضادة التي تؤكد أن إيران ، في واقع الحال كانت أول بلد في العالم ، من خارج الدول التي أرسلت جيوشها لغزو العراق بصورة علنية ، من أسهم بجهد إستراتيجي في إنجاح المشروع الأمريكي في العراق ، واضعة نصب عينيها ، أن التخلص من النظام العراقي الوطني الذي يقوده الرئيس الراحل صدام حسين ، يفوق في أهميته ما يمكن أن ينجم من أخطار محتملة على إيران بوجود عسكري أمريكي على تخومها ، يمكن بالمرونة الإيرانية المعهودة من امتصاص مخاطره ، ولهذا صرح هاشمي رفسنجاني ، أن أمريكا ما كان بوسعها النجاح باحتلال العراق لولا الموقف الإيراني ، وكأنه يذكّرها بتسديد دينها المستحق ، ولما لم تفعل استشاط الولي الفقيه غضبا ، وقال إن أمريكا نقضت الاتفاقات التي تم التوصل إليها بين البلدين كجزء من ترتيبات الغزو وما يعقبه من إلتزامات متقابلة.
هذا معناه أن الزيارة لم تكن تحديا للوجود الأمريكي ، بقدر ما كانت محاولة من طهران للبحث عن مفاتيح جديدة لتوسيع نطاق الحوار العلني بين طهران وواشنطن ، والمضي قدما في المفاوضات السرية ، فتوزيع الأدوار بين مختلف الزعامات الإيرانية ، يشكل على ما تعتقد إيران ، كسبا لمزيد من الوقت بانتظار انتهاء حكم الرئيس جورج بوش الابن ، ومجيء إدارة جديدة يمكن رسم مسار التعامل معها بأعصاب هادئة ، جريا على الفرضية القائلة ، إن أول سنتين من عمر أي رئيس أمريكي في البيت الأبيض ، سيقضيها في التعرف عن كثب على الملفات الساخنة ، وهاتان السنتان هما فرصة طهران في الوصول إلى خطوة متقدمة في أهم ملفاتها ، وهو الملف النووي المثير للجدل ، هكذا ذهب الكثير من المراقبين إلى افتراض أن نجاد سوف يوجه رسائل عن قرب للأمريكيين بجولة جديدة من الحوار ، تحت لافتة البحث في الشأن العراقي ، واللافت أن طهران التي كانت تبتز واشنطن وتتمنع في قبول حوار معها في المواعيد المقررة سابقا ، سرعان ما أعلنت بنفسها عن تحديد موعد له ، بعد يومين من عودة نجاد إلى بلاده من بغداد التي كانت قد غيّرت لغتها وحتى ملابسها ، فأصبحت خليطا غير متناسق أو متجانس من اللكنة و الأزياء الإيرانية الأمريكية . كما أن مجيء تحديد الموعد بعد يوم واحد من صدور قرار مجلس الأمن الدولي بفرض سلة من العقوبات الجديدة على ًإيران ، بسبب استمرار تحدي إيران للأسرة الدولية في برنامجها النووي ، ذي الطموحات العسكرية المؤكدة ، مما يؤكد أن طهران بتمثيلها دور التمنع عن الرغبة في استئناف الحوار في بغداد ، كانت تسعى لمنع صدور هذا القرار ، من خلال التلويح بالاستعداد لتسخين الملف العراقي ، إذا ما حاولت الدول الغربية جر مجلس الأمن إلى نقطة الصدام معها ، ولكن حينما صدر القرار وفوجئت بأن الدول التي راهنت على موقفها الرافض لهذه العقوبات ، مثل روسيا والصين وجنوب أفريقيا ، فضلت الانضمام إلى شبه الإجماع ، وصوتت إلى جانب القرار لتصورها عن شكل عالم يمكن أن تكون فيه إيران دولة نووية .
لقد جاءت زيارة نجاد وكأنها عملية استعراض للقوة ، ولكنها في واقع الحال أكدت على الأقل على صعيد الشارع العراقي رفضا قاطعا لها ، حتى إذا قوبل هو وعشرات من قيادات الحرس الثوري – المدرج على لائحة الإرهاب الدولي من طرف الولايات المتحدة – بالأحضان على مقربة من آلاف الجنود الأمريكيين ، ومما استوقف مراقبي هذه الزيارة ، التي أعلن برنامجها سلفا ، وأن نجاد سيزور كلا من كربلاء والنجف ، أن الروح الاستعراضية بالتعلق الروحي بآل البيت ، لم يجد له متسعا في زمن نجاد ليستكمل مراسم هذه الزيارة ، بل فضل عليها مراسم التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم بين طهران وبغداد ، تمهد لمزيد من النفوذ الإيراني في العراق ، وتغلغلا عن طريق عناصر قوة القدس ، والحرس الثوري تحت واجهات تجارية وفنية ، ودس الآلاف من عناصرها تحت أسماء الشركات التي ستنفذ تلك العقود.
فلماذا لم يذهب نجاد إلى كربلاء والنجف؟
هل كان ذلك زهدا منه بزيارة لا تتاح له بهذه الصفة مرة اخرى؟
أم أن الاحتقان الذي تعيشه هاتان المدينتان، نتيجة التغلغل الإيراني الذي وصل حدا لا يطاق، والخشية من ردود فعل الشارع في المدينتين ، هو الذي أرغم نجاد على تغيير مسار الزيارة والعودة مبكرا من حيث أتى ، خاصة وأن النجف وكربلاء شهدتا في عامين متتاليين أحداثا دموية ما كان بالامكان السيطرة عليها لولا تدخل القوات الأمريكية، مما لا يمكن أن يلقى على عاتق ما يسمى بالإرهاب الذي تحاربه الولايات المتحدة في العراق.