تساؤلات مشروعه حول سر تبرئة النظام الإيراني من "جريمة النووي" في تقرير الـ "سي.آي.إيه"
نبيل ابو جعفر :هل فقدت إدارة بوش عقلها حتى تنقسم على نفسها، وتظهر أمام العالم برأيين متناقضين تجاه أحدى أكثر القضايا المشغولة بمتابعتها منذ زمن، وهو المشروع النووي الايراني: أحدهما لوكالة المخابرات الاميركية (السي.آي.إيه) والآخر للرئيس بوش؟ أم أنها لعبة توزيع الأدوار، والاستفادة من تجربة العراق؟
لا شك أن هناك عدة أهداف للخطوة الأميركية الأخيرة التي عبّر عنها تقرير السي.آي.إيه الأخير حول توقيف النظام الإيراني لمشروعه النووي غير التسليحي منذ
العام 2003، لعلّ أولها محاولة الظهور بالمظهر العادل غير المتحامل، ولا الكاذب هذه المرة، وثانيها ايجاد مخرج للأزمة التي تمادى كل من طرفيها الاميركي والايراني في غلوائه وتمسّكه بموقفه المتصلب، فذهب بوش بعيداً في مواصلة التهديد الكلامي بالضرب، وذهبت طهران الملالي بعيداً في التحدّي وعدم التنازل، ولم يعد هناك مخرج من هذا الوضع، طالما أن المشهد المسرحي قد وصل الى نهايته إلاّ بتراجع أحد الطرفين، إما إدارة بوش أو إدارة الملالي. وأمام تعذّر أي منهما ارتؤي الأخذ بخيار ثالث.
السي.آي.إيه في خدمة الإدارة
ومرة أخرى كانت السي.آي.إيه هي التي تدفع الثمن، كما دفعته أيام رئيسها السابق جورج تينيت ولكن بشكل معاكس. فبينما أكدت وكالة المخابرات في تلك الأيام معلومات غير مؤكدة حول العراق، وفبركت معلومات أخرى، وأحضرت شهوداً واعتمدت على عملاء معروفين "ومشهورين" كجماعة الجلبي، لتُصدر تقريراً يخدم أهداف الإدارة ورئيسها على طريق ضرب العراق واحتلاله، ها هي تُستخدم من جديد لكي تخدم هدف الرئيس في الحل غير المُفضي الى الضرب، كما تخدم ذاتها أيضاً من خلال التأكيد على توخّيها الحقيقة وحرصها على اظهارها حتى لو تناقضت مع ما لديها من معلومات سابقة، ولو أتى الإعلان عنها بعد أيام قليلة من الهجمة التي قادتها الولايات المتحدة واسرائيل ضد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي واتهامه بالانحياز الى جانب ايران وصولاً الى المطالبة بإقالته، على الرغم من أن تقرير البرادعي الذي صدر في 15 تشرين الثاني الماضي يتحدث عن تعاون ايران مع الوكالة بشكل كافٍ، دون التأكيد على سيرها في برنامجها النووي غير المدني، وهو ما وصلت المخابرات الاميركية الى الاعتراف به في تقريرها الأخير!
أما إصرار بوش على موقفه السابق واعلانه تعليقاً على ما ورد في تقرير "السي.آي.إيه" أن ايران لا تزال تمثّل خطراً، على الرغم مما ورد في التقرير من انها اوقفت برنامجها النووي منذ أربع سنوات، فليس إلاّ ذراً للرماد في العيون، حتى لا يبدو كالح الوجه أمام المعارضة الديمقراطية، وحتى لا يتأكد للرأي العام في المقابل أن قراراته محكومة بكتبة التقارير الاستخبارية وليس هو الحاكم والمتحكّم في توجيهها.
منذ البداية: لا حرب ضد ايران
لقد كان هدف وكالة المخابرات من وراء تقريرها المفاجىء أن تُظهر بأن الولايات المتحّدة لا تفتري على أحد، وأنها اذا كانت تجزم في الماضي بوجود أسلحة دمار في العراق فلأنها كانت تعتقد ذلك، والدليل أنها هي التي لا تتوانى عن الاعتراف العلني بأن ايران قد اوقفت نشاطها النووي العسكري منذ العام 2003، أي أنها تتّبع الحقيقة وليس الهوى أو التلفيق!
والذي يُتابع فصول الأزمة منذ بدايتها بين ادارة بوش والملالي سوف يجزم، كما جزمنا مراراً في السابق بأن الحرب التي يجري الترويج لقرب وقوعها لن تقع أبداً، وإن حصل شيء من هذا القبيل على سبيل الافتراض – فلن يتعدّى نطاق ضربة محدودة بمقياس دقيق، تستهدف إثارة زوبعة اعلامية لا اكثر ولا أقل، وهذا ما يؤكده ضمناً تقرير "السي.آي.إيه" من خلال قوله بالنص الحرفي: "إن توقيف ايران لنشاطها يعني أن تضافر الجهود، واستمرار التهديد لها بتكثيف الرقابة الدولية عليها وكذلك الضغوط، يمكن أن يدفع هذا البلد الى الاستمرار في وقف برنامجه النووي".
أي بصريح العبارة: ان التهديد وحده بالضغط والرقابة، وليس بشنّ الحرب ولا الضرب، هو السبيل الكفيل الى وصول الولايات المتحدة لما تريد، وهو في الحقيقة ما تفعله إدارة بوش على الأرض، وإن كانت تُعربد كثيراً في الكلام، وتعمل على استنفار حلفائها وأنصارها للمشاركة في الضغط ايضاً.
وبناءً على ما تقدّم، لم تُرِد المخابرات الاميركية أن تثبت من وراء تقريرها الجديد أنها غيرت اساليب عملها فقط في ملف ايران، بل انها استفادت من "عثرات" تجربة العراق أيضاً، ولديها الجرأة على إعلان كل جديد حتى لو خالف ذلك رأيها وما لديها من معلومات سابقة. ولهذا سمعنا على لسان أكثر من مسؤول في الوكالة بأن جهازهم عمد الى استخدام طرق جديدة في جمع المعلومات وتحليلها، وذهب البعض في تفسيره لهذا الكلام الى حدّ القول أن السبب المباشر لهذا التغيير يعود مصدره الى الحصول على معلومات جديدة أرغمت ادارة "السي.آي.إيه" على إعادة النظر بتقييمها السابق مستفيدة بذلك من تجربتها الفاشلة في العراق، ومن حكمها غير الدقيق الذي أصدرته حول امتلاكه أسلحة الدمار الشامل.
ولتأكيد جدّية الجهاز "وحياديته" في منهجيته الجديدة أكد أكثر من مسؤول فيه أن مدير وكالة المخابرات مايكل هايد، وكذلك مساعده لم يصدّقا المعلومات الجديدة الواردة حول وقف البرنامج النووي الايراني، وشكّكا بما ورد فيها، إلاّ أنهما ما لبثا أن اقتنعا بإمكانية حدوث ذلك. والملفت للانتباه هنا إقرار بعض مسؤولي المخابرات الاميركية بصعوبة التجسس على ايران – حسب قولهم – الأمر الذي دفعهم الى متابعة رصد ما أتاهم من معلومات جديدة للتأكد من حقيقة توقف العمل بالمشروع النووي غير المدني، والقيام بالمزيد من التدقيق والتحليل وجمع المعلومات.
أين الحقيقة.. ومن نصدّق؟
هنا يُطرح السؤال: كيف يمكننا أن نقتنع بتفسير مسؤولي "السي.آي.إيه" حول دافع المخابرات الى اعطاء هذه الشهادة التي فاجأت العالم بتبرئة النظام الايراني بعد كل المعلومات السابقة والاتهامات التي وجهت اليه، وبعد أن قامت "المقاومة الايرانية"، وتحديداً منظمة "مجاهدي خلق" بتقديم معلومات معزّزة بالصور والخرائط والأسماء حول أماكن "النشاط النووي"، والأماكن الجديدة التي تمّ الانتقال اليها لإخفاء المشروع وتوزيع مقرّاته على أماكن عديدة ومتفرقة في سائر أنحاء طهران والمناطق الايرانية الأخرى.
لقد عمد "المجاهدون" مراراً إلى نشر هذه المعلومات ومستجداتها أولاً بأول من خلال مؤتمرات صحافية عقدوها في العاصمة الفرنسية وبعض عواصم الاتحاد الاوروبي وحطّت كلها في مكاتب المخابرات الاميركية عبر جواسيسها وصحافييها المنتشرين هنا وهناك، وعبر اتصالاتهم المتشعبة مع كل المعنّيين بالأمر.
ترى، هل كانت معلومات منظمة مجاهدي خلق غير دقيقة فأراد الأميركان تصحيحها ببحثهم الجديد وأسلوبهم "المتطوّر"؟ أم أن الاميركان أنفسهم لم يريدوا من وراء الحصول على هذه المعلومات أو الاطلاع عليها اكثر من استغلالها وقد استغلّوها فعلاً؟
في بيان لـ "المجاهدين" وصلتنا نسخة منه، ردّت المنظمة الايرانية المعارضة على الموقف الاميركي الجديد بتحذير الولايات المتحدة من "ألاعيب النظام وأساليبه المعروفة في الخداع وعمليات الإخفاء". وفيما يبدو أنه تأكيد للمعلومات التي قدّمتها المنظمة للرأي العام في مؤتمراتها الصحافية السابقة قال البيان أنه "لو لم يكشف المجاهدون عن البرنامج النووي لكان النظام الآن قريباً جداً من القنبلة النووية"، ولم يسأل المجاهدون "السي.آي.إيه" عن مصدر معلوماتها الجديدة والأكثر دقة من معلوماتهم"!".
غير أن صحيفة "النيويورك تايمز" قد أقرّت بأن المخابرات الاميركية تمكنت من اختراق الجيش الايراني، وقامت بتسجيل محضر لاجتماع عسكري انتقد فيه الضباط قرار تعليق برنامج التسلح النووي. وأشارت مصادر أخرى إلى أن المعلومات الجديدة التي وصلت الى المخابرات الاميركية في العام 2004 أخذت من "كومبيوتر" محمول يعود لأحد المهندسين الايرانيين.
ولكن: من يؤكد لنا هنا أيضاً أن النظام الايراني نفسه لم يُزوّد الاميركان – عمداً – بمحضر الضباط المعترضين على وقف المشروع النووي، ولم يَدسّ لهم كومبيوتر المهندس بكل ما فيه من معلومات يُريد تسويقها لهم، ولم يفعل أكثر من ذلك ليبدو لهم في صورة الحمل الوديع، لا الشيطان الرجيم ، بدليل ترحيبه بتقرير السي آي إي في البداية ، ثم "احتجاجه" على قيام الولايات المتحدة بالتجسس عليه ، مع ان الأميركان انفسهم قد اعترفوا سلفا بصعوبة التجسس على ايران؟
إذن ، أين الحقيقة، وماذا وراء قرار المخابرات الاميركية، وهل ما يتضّمنه هو الواقع، أم أنه "فبركة" اميركية مقصودة لن تلبث أن تُكشف حقيقتها عما قريب؟