بقلم عبدالكريم عبدالله جريدة الزمان
التاريخ الثقافي لعموم الشعوب الايرانية، حافل بالمعطيات التي تتربع قمما مميزة معبرة عن مدي الرقي الحضاري لهذه الشعوب، ذات الطابع الابداعي الخاص، الذي اثر في عموم ثقافات الشعوب المجاورة تفاعلا واخذا وعطاءا، ويكاد يكون التاثر والتاثير المتبادل بين الادب الفارسي والادب العربي علي سبيل المثال، السمة الاكثر جلاء او وضوحا في طبيعة العلائق الثقافية بين الانسان الايراني وجيرانه، وبمعني اوضح لم تكن الثقافة الساطعة لحضارات الشعوب الايرانية عبر كل تاريخها، ثقافة تقوقع وانعزال، كما انها في تاثرها وتاثيرها في ماحولها وعلاقاتها به لم تكن ابدا ثقافة قسرية او ذات امتدادات مفروضة، وحتي ابان سيطرة واحتلال الامبراطورية الفارسية اجزاء من الجغرافيا الاقليمية المجاورة ,كانت تتمتع بخاصية الاخذ والعطاء والتاثر والتاثير الطوعي الاختياري في علاقاتها مع ثقافات البلدان والشعوب التي خضعت لها، اذا وضعنا بعض الاعتبارات الهامشية التي يفرضها واقع الاحتلال كتحصيل حاصل جانبا،
وبمعني اكثر قربا ودقة ، ان (سمة القسر) لم تكن ابدا سمة من سمات ثقافة الشعوب الايرانية، ويكفي ان نذكر نحن العرب في ادابنا منزلة شاعر ايران الاكبر حافظ شيرازي، والخيام الذي ترجم رباعياته اكثر من شاعرعربي من شتي الاقطار العربية بفخر واعتزاز ورغبة وانجذاب، وسماء اخري لنجوم الادب الفارسي في القصة والرواية والفلسفة والحكمة والفكر ومناحيه المتنوعة، والموسيقي والغناء والسينما والمسرح والفنون التشكيلية الايرانية المعروفة حيث كانت ايران والي وقت قريب تمثل مركزا من مراكز الاشعاع الثقافي الاسيوية، ولم يكن هذا المركز ينسي الهوية الاسلامية للشعوب الايرانية او يتقاطع معها، بل علي العكس كان ينهل منها ويضيف اليها بانفتاح حضاري وفهم متقدم لماهية الاسلام وانسانيته وعلاقته بالفن والادب في مختلف مناحيهما، تلك العلاقة القائمة علي ان حدود قدرات الانسان متاحة حتي الخط الذي تبدأ عنده حدود قدرة الخالق ,ما منح الفن والادب والثقافة الايرانيةعامة، افاقا رحبة وحرية بعيدة الامتدادات والساحات لتشكل ابداعيا بصور تحفل بالجاذبية الخلاقة .
لكن الثقافة الايرانية وميادينها الرحبة، وللاسف المؤلم، اصيبت بنكسة شديدة عقب استيلاء شريحة معينة من طبقة رجال الدين من ذوي الذهنيات المنغلقة علي فهم قاصر ومتخلف حتي فقهيا لموقف الاسلام من – الفعل الثقافي – بمختلف اشكاله، وكان ذلك يعني مباشرة الاحتكام الي ايديولوجيا القسر لفرض نوع اونمط معين من الثقافة، التي لا تمتلك القدرة علي رؤية مباهج الحياة، او تبدعها وتضيف اليها، بل تضع المنتج والنتاج الثقافي في دوامة الاحساس المستدام بالذنب والخوف من تلك القوة المجهولة التي تهدد دائما بالعقاب ولا ثواب لديها الا بالتنسك المحرف عن الاهداف الروحية العالية للنسك الحقيقي وانما هو النشاط الذي يرمي الي الحرمان وحسب، والا في تمجيد هذه القوة وتمجيد عالمها الاخر المشحون بيوتوبيا لاعلاقة لها بحركة الحياة المعاشة وجدليتها واشتراطاتها حتي علي وفق الرؤية الاسلامية المحمدية، ما افقد الفعل والنتاج والمنتج الثقافي والمثقف الايراني مستهلكا ومبدعا، تلك الاشراقة الخاصة والجاذبية المميزة التي كان يتمتع بها شعبيا، محليا وفي اوساط الحضارات الانسانية الاخري، الامر الذي دفع الكثير من الفنانين والادباء والمفكرين الايرانيين الاحرار الي الهروب من حلقات القسر او السجن الايراني الكبيرالي فضاءات الحرية، في اصقاع الارض وبرغم ان ذلك يعد نوعا من الاغتراب عن البيئة الحاضنة الام، الا انه في الحقيقة لم يشكل انقطاعا عن الجذور الايرانية والتربة الاساس بل حماية لها ولمنتجها كما انه فتح ابوابا اكثر واوسع علي الثقافات الانسانية، واوصل رسائل المثقف والثقافة الايرانية الينبوع والاصل الي العالم، تلك الرسائل التي حرم النظام القائم كتابتها او تداولها وارسالها، بنفس طابعها العريق الاصيل الذي تكون في رحم الحضارة الايرانية ذات الامتدادات التاريخية البعيدة الغور، والتجارب والابداعات والخلق الفني المتنوع، والثراء الذي لاحدود له، وتلك واحدة من الجرائم الحقيقة الاكثر قسوة التي ارتكبت بحق الشعوب الايرانية عندما مورس القسر ضد نشاطها ونتاجها الثقافي الذي يشكل بعض هويتها الخاصة، وحرفها وجرها الي ممارسات قشرية بعيدة عن روحها وطابعها المتنوع تنوع جغرافيتها والمتعدد تعدد شعوبها، وفي الحقيقة كنت اريد ان اقول هذا الكلام منذ مدة طويلة تمتد الي بداية اهتمامي بالاوضاع في ايران وتطوراتها، وتاثيرها علي الكيان الحضاري العراقي، لكنني كنت اؤجل ذلك دائما، لاعتقاد خاطيء – هو ان الحديث السياسي يجب ان ينال حصة الاسد من الاولوية – حتي تراكمت لدي صور النشاط الثقافي والادبي والفني المميز للمثقفين الايرانيين المتواجدين في مدينة اشرف (جنينة صحراء العظيم التي بنوها بايديهم من الصفر علي الرمال القاحلة) وبخاصة الموسيقيين منهم، فقد كنت اراقب فعالياتهم في مناسباتهم الوطنية والقومية واعيادهم الفولكلورية العريقة التي حرم النظام الاحتفال ببعضها بحجج واهية، ومنها اعياد اذار ونيسان اواعياد الربيع، واعجب من قدراتهم الابداعية، بل اني اتساءل كيف امتلكوا كل هذه البراعة، وهم في هذه الصحراء المقطوعة ؟؟ ليتواصلوا مع تراثهم الموسيقي بدرجة عالية الاتقان لايتمكن منها خيرة الموسيقيين من خريجي المعاهد المتخصصة العليا، فقد استمعت عدة مرات الي عزف اجواق موسيقية ايرانية في مدينة اشرف تتكون من اكثر من 200 عازف ومنشد، يؤدون وصلات غنائية وموسيقية لعموم شعوب ايران من شرقها الي غربها ومن شمالها الي جنوبها، وشاهدت فرقا راقصة تؤدي رقصات فولكلورية تمثل نتاج عموم مكونات الشعوب الايرانية علي اختلاف اعراقها وانتماءاتها وعقائدها، دون تمييز ولا قسر، بل بمساحة من الحرية لايمكن تصورها الا في هذه المدينة المبدعة التي اسماها الكاتب العراقي صافي الياسري بحق (المدينة الفلسفية).
والتقط من هذه الاجواق الفريدة علي سبيل المثال لا الحصر من العازفين والمنشدين والمغنين، نموذجا لشقيقين هربا من اجواء القسر والكبت في السجن الايراني الكبير الي هذه المدينة المبدعة فصنع احدهما الة وترية وصنع الاخر -رقا – وتخصصا في عزف الموسيقي (الصوفية) ببراعة وابداع يندر مثيله، وهو ينقل روح الحاضنة والبيئة الام وطابعها مستثمرا الحرية التي وفرتها حكومة مدينة اشرف، المتمثلة بفلسفة منظمة مجاهدي خلق التي انشأت هذه المدينة، القائمة علي احترام حقوق الانسان وحريته في ممارسة طقوسه الدينية واختيار العقيدة التي يؤمن بها، والنتاج والفعل الثقافي الذي يعبر عن هويته القومية او انتمائه المناطقي والعقائدي، وما اريد التوكيدعليه هنا، اني اذكر ذلك، وانا انظر بعين الخيشة والتحسب الي محاولات النظام الايراني مد ظلال ايديولوجية القسر الثقافي، علي حاضنة الثقافة العراقية وبيئتها لتزوير هويتها، او حرفها عن جادتها الحضارية التاريخية التي تعرف الالتزام جيدا لكنها ترفض القسر بشكل مطلق.
عبد الكريم عبد الله