موقع المجلس:
تتصاعد معدلات التضخم وتتآكل القوة الشرائية للمواطنين بوتيرة متسارعة، حین يواجه الاقتصاد الإيراني في مايو 2025 أزمة خانقة. هذا التدهور لا يقتصر على الأرقام الاقتصادية فحسب، بل يمتد ليشمل تدهوراً ملموساً في حياة الأسر الإيرانية اليومية. لقد أسهم ارتفاع تكاليف المعيشة وتآكل الأجور في تأجيج حالة الاستياء الشعبي، مما أدى إلى تصاعد الاحتجاجات في البلاد. هذا التقرير يسلط الضوء على الأرقام الرسمية للتضخم والأسعار في مايو 2025، محللاً الأسباب الجذرية للمأزق الاقتصادي الذي يواجهه النظام الإيراني، وكاشفاً عن الوعود الحكومية التي تبخرت، والظروف المعيشية المتردية التي يعيشها الشعب.
واقع التضخم في مايو 2025: أرقام مقلقة وتأثيرات متباينة
تُظهر التقارير الرسمية لمركز الإحصاء الإيراني أن معدل التضخم السنوي في مايو 2025 بلغ نحو 33.9%، بزيادة 0.7 نقطة مئوية عن أبريل السابق (33.2%). أما التضخم النقطي، الذي يقيس التغير مقارنة بالعام الماضي، فقد وصل إلى 38.7%، مما يعني أن الأسر تنفق حوالي 40% أكثر لشراء نفس السلع والخدمات. ورغم انخفاض طفيف عن أبريل، يظل هذا المعدل مقلقاً للغاية. التضخم الشهري في مايو سجل 2.7%.
الضغط التضخمي الأكبر في مايو جاء من السلع غير الغذائية والخدمات، حيث ارتفعت أسعارها بنسبة 3.5% شهرياً، مقابل 1.1% للمواد الغذائية والمشروبات. هذا التحول يؤكد أن التركيز الحكومي على دعم الغذاء وحده غير كافٍ، فتكاليف الخدمات الأساسية كالإيجار والرعاية الصحية تواصل تآكل مستويات المعيشة.
الزيادة في الأسعار خلال شهري مارس وأبريل 2025 بلغت 6.7%، وهي الأعلى منذ 14 عاماً على الأقل. على صعيد الشرائح الدخلية، تراوح التضخم السنوي بين 33.1% للشريحة الثانية (الأقل دخلاً) و 34.2% للشريحة التاسعة (الأعلى دخلاً). وفي تطور لافت، شهدت سلة المواد الغذائية للشريحة الأولى (الأشد فقراً) تضخماً سلبياً بنسبة -0.3% في مايو، بفضل العوامل الموسمية. ومع ذلك، فإن هذا التحسن الهامشي في أسعار الغذاء لا يعالج المشكلة الأساسية، فالتضخم السنوي الإجمالي لا يزال مرتفعاً، والارتفاع الرئيسي يأتي من السلع غير الغذائية والخدمات، مما يجعل الوعود الحكومية بالسيطرة على التضخم تبدو فارغة.
أسباب المأزق الاقتصادي: وعود لم تتحقق وسياسات غير مجدية
يُعد انهيار قيمة الريال الإيراني المحرك الرئيسي للتضخم المستشري. فقد فقد الريال حوالي 50% من قيمته خلال عام واحد، ووصل سعر الدولار إلى 93,000 تومان في مايو 2025 بعد أن كان 60,000 تومان في يوليو 2024، مما يعني فقدان أكثر من 54% من قيمته في 16 شهراً. هذا التراجع الكارثي يجعل الواردات أكثر تكلفة، ويؤثر على أسعار السلع المحلية. يؤكد الخبراء أن كل 1% زيادة في سعر صرف الدولار تؤدي إلى زيادة 1% في معدل التضخم، مما يخلق حلقة مفرغة من التدهور الاقتصادي وتغذية التوقعات التضخمية. هذا الفشل المستمر في تثبيت العملة يكشف بوضوح عن “الوعود الفارغة” بالاستقرار الاقتصادي.
وفي مواجهة العقوبات الدولية وتراجع عائدات النفط، لجأت الحكومة إلى استنزاف جيوب المواطنين لسد العجز المتزايد في الموازنة. ففي موازنة مارس 2025 – مارس 2026، فُرضت زيادة غير مسبوقة في الإيرادات الضريبية بنسبة 53%، شملت ضرائب الشركات (73%)، وضرائب الدخل الشخصي (68%)، وضرائب الاستهلاك (22%). كما فُرضت زيادات ضخمة في رسوم الخدمات المختلفة، مثل زيادة 500% في رسوم خدمات الإقامة للأجانب، و650% في رسوم تسجيل المركبات الأجنبية، و30% في ضريبة الخروج للمواطنين. هذه الإجراءات تعكس مأزق النظام، حيث يواجه عجزاً متزايداً في الموازنة، ويحتاج إلى بيع النفط بسعر 163 دولاراً للبرميل لموازنة ميزانية 2025، وهو ما يفوق بكثير السعر العالمي الحالي (حوالي 66 دولاراً).
وعلى الرغم من الوعود المتكررة، فشلت السياسات الحكومية في كبح جماح التضخم. كان هدف البنك المركزي لعام 2025 هو خفض معدل التضخم إلى أقل من 30%، لكن الأرقام الرسمية تشير إلى استمراره في الارتفاع. وقد أدت السياسات الانكماشية للبنك المركزي إلى الفشل بسبب عدم توافق السياسات المالية للحكومة، مثل عجز الموازنة الهائل والتسهيلات الإلزامية. هذا التضارب بين السياسات النقدية والمالية يمثل مأزقاً حقيقياً في الإدارة الاقتصادية. كما تساهم عوامل هيكلية كالعقوبات الدولية وسوء الإدارة وتذبذب سعر الصرف، بالإضافة إلى تحديات زراعية كأزمة المياه، في تفاقم التضخم. إن إقالة وزير الاقتصاد السابق بسبب أزمة التضخم وتراجع العملة هي محاولة سطحية لإلقاء اللوم، ولا تعالج المشكلة الجذرية للنظام في تنفيذ إصلاحات اقتصادية متماسكة.
تداعيات وخيمة على حياة المواطنين: تآكل المعيشة واليأس الاجتماعي
تُجبر الأسر الإيرانية على إنفاق ما يقرب من 40% أكثر على السلع الأساسية مقارنة بالعام الماضي. يظهر هذا التآكل السريع في القوة الشرائية جلياً في ارتفاع أسعار سلع أساسية محددة في مايو 2025، مثل الليمون الحامض (26.1%)، والرمان (23.4%)، والسكر (7.4%). تفاقم الوضع بسبب الارتفاع الكبير في تكاليف السكن، الذي يؤثر بشكل مباشر على جميع الأسعار الأخرى، مع زيادات في قطاعات حيوية كالتعليم (38%) والرعاية الصحية (27%). ورغم أن الحكومة تقدم دعماً نقدياً وقسائم سلع ثابتة عند 300 ألف تومان، إلا أن هذا المبلغ لا يتناسب إطلاقاً مع معدلات التضخم المتزايدة، مما يجعل دعم الحكومة رمزياً وغير كافٍ لحماية المواطنين. هذا الوضع يسلط الضوء على “الظروف المعيشية الوخيمة” للمواطنين ويكشف عن “الوعود الفارغة” بتقديم إغاثة اقتصادية فعالة.
وتتجاوز الأزمة الاقتصادية مجرد ارتفاع الأسعار لتشمل تفاقم الفقر والبطالة. لا يزال أكثر من ثلث الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر، ومن المتوقع أن تزداد نسبة الفقر إلى 20% في 2025-2026. الأكثر إثارة للقلق هو الوضع بين الشباب، حيث أن 50% من الإيرانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و40 عاماً عاطلون عن العمل، بل إنهم لا يبحثون عن فرص عمل، مما يعكس حالة من اليأس في سوق العمل. هذا ليس مجرد إحصاء اقتصادي، بل هو مؤشر على أزمة اجتماعية عميقة، وهدر فادح لرأس المال البشري. وقد أقر مستشار خامنئي بوجود 2020 حياً فقيراً في البلاد، مما يؤكد على انتشار الفقر المدقع.
وأدت ارتفاع تكاليف المعيشة وتدهور الرواتب إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية في البلاد. فمع تزايد تكلفة الخدمات الأساسية، تتآكل القوة الشرائية بشكل أكبر، ويتعمق عدم المساواة، ويتغذى تزايد الاستياء تجاه النظام. إن أزمة السكن، على سبيل المثال، مترابطة بشكل وثيق مع أزمات الخبز والماء والكهرباء والغاز والبقالة الأساسية والملابس والاتصالات. وعندما تتفاقم هذه الأزمات المتشابكة، فإنها تؤدي إلى أزمة سياسية قد تتطور إلى أزمة ثورية. هذا التحليل يشير إلى أن الأزمة الاقتصادية ليست مجرد مشكلة مالية معزولة، بل هي تهديد مباشر ومتصاعد لاستقرار النظام. إن التأثير التراكمي لـ”مأزق النظام” الاقتصادي و”وعوده الفارغة” يدفع السكان إلى نقطة الانهيار، مما يخلق أرضية خصبة لعدم الرضا الواسع النطاق وربما حركات اجتماعية أكبر أو حتى ثورية.
مأزق اقتصادي ومستقبل غامض
تؤكد البيانات والمؤشرات الاقتصادية الأخيرة أن إيران تعيش في مأزق اقتصادي عميق، حيث فشلت الوعود الحكومية المتكررة في كبح جماح التضخم المتصاعد أو تحسين الأوضاع المعيشية. بل على العكس، أدت السياسات المتبعة إلى تآكل متزايد في القوة الشرائية للمواطنين، وتفاقم الفقر والبطالة، خاصة بين الشباب.
إن اعتماد النظام على زيادة الأعباء الضريبية والرسوم على المواطنين لسد عجز الموازنة، في ظل تدهور قيمة العملة وتأثير العقوبات، يمثل استراتيجية قصيرة النظر تزيد من معاناة الشعب وتغذي الاستياء الاجتماعي. هذا المأزق ليس مجرد انتكاسة عابرة، بل هو مشكلة هيكلية عميقة الجذور، ناتجة عن تفاعل الضغوط الخارجية الشديدة (العقوبات) والخيارات السياسية الداخلية، بما في ذلك سوء الإدارة الاقتصادية وتفضيل القطاعات غير المنتجة. إن عدم قدرة النظام على معالجة هذه الأسباب الجذرية يعني أن أي “حلول” أو “إصلاحات” معلنة هي على الأرجح سطحية وغير مستدامة، مما يؤدي فقط إلى استمرار الأزمة. ما لم يتم معالجة الأسباب الهيكلية، فإن آفاق الاقتصاد الإيراني تبقى غامضة، مع استمرار الضغوط على حياة المواطنين وتزايد احتمالات عدم الاستقرار الاجتماعي، مما يجعل أي وعود بالتحسن “فارغة” حقاً ويزيد من التحديات طويلة الأمد أمام شرعية النظام واستقراره.