أكثر من ستة ملايين وحدة سكنية فارغة
موقع المجلس:
في الوقت الذي يتنامى فيه عدد المواطنين الذين لا يجدون مأوى، ويضطرون إلى النوم فوق الأسطح، أو داخل السيارات، أو في المقابر، أو حتى في الحافلات العامة، و في قلب واحدة من أسوأ الأزمات الاجتماعية التي تعصف بإيران اليوم، تتكدّس أكثر من ستة ملايين وحدة سكنية فارغة،
ليست هذه مجرد أزمة إسكان، بل هي انعكاس فجّ لسياسات مُمنهجة لإفقار الشعب وتجريده من الكرامة، تُدار بأدوات اقتصادية تابعة مباشرة للنظام، وعلى رأسها خامنئي.
سكن كثير من المواطنین في ایران
وفق ما كشفته وكالة “تجارت نيوز”، فإن العامل الإيراني الذي يتقاضى أجراً عادياً يحتاج إلى 580 عاماً حتى يتمكن من شراء منزل في ظل الأسعار الحالية. أما القروض العقارية، فلم تعد تكفي حتى لشراء ستة أمتار من الأرض، في حين تحوّلت الدولة نفسها إلى أكبر محتكِر للأراضي والعقارات في البلاد. في الوقت نفسه، تستمر أسعار المساكن في التصاعد الجنوني، خصوصاً في طهران، حيث تجاوز سعر المتر الواحد 110 ملايين تومان، بينما تُنشر تحذيرات في وسائل الإعلام الرسمية حول موجة غلاء جديدة تلوح في الأفق، دون أن يتجرأ أحد على تسمية المسؤول الحقيقي.
منذ عام 2006 وحتى 2023، تضاعفت أسعار العقارات في إيران أكثر من تسعين مرة، في حين ارتفع عدد البيوت الفارغة من أقل من سبعمئة ألف إلى ستة ملايين. هذا التناقض الفاضح بين وفرة المباني الفارغة وتفشي ظاهرة التشرد لا يمكن تفسيره إلا من خلال فهم بنية منظومة الاحتكار العقاري التي تسيطر عليها مؤسسات مرتبطة رأساً بالنظام. ووفق ما ورد في صحيفة “كيهان”، فإن أكثر من نصف الوحدات السكنية الفارغة تعود ملكيتها إلى البنوك، وهذه البنوك ليست مؤسسات مالية مستقلة، بل أدوات اقتصادية بيد أجهزة النظام، وعلى رأسها الحرس ومؤسسة آستان قدس، التي ترتبط مباشرة بمكتب خامنئي.
ولم تعد البنوك في إيران تمارس دورها التقليدي في دعم الإنتاج وتمويل مشاريع التنمية، بل تحوّلت إلى تجار عقارات يضاربون في السوق من خلال شراء الآلاف من الوحدات السكنية، أو عبر مصادرة بيوت المقترضين العاجزين عن سداد ديونهم. والسبب بسيط: سوق العقارات تدر أرباحًا ثابتة وسنوية بنسبة لا تقل عن ثلاثين بالمئة، دون أي مخاطرة تُذكر. لذلك، لا تطرح هذه المؤسسات الوحدات التي تملكها في السوق، بل تتركها فارغة عن قصد، وتُعارض بشدة تطبيق قوانين فرض الضرائب على المنازل غير المسكونة، حتى تبقى الأسعار مرتفعة وتحت سيطرتها الكاملة.
ومن جهة أخرى، تساهم البلديات بدور خفي لكن مؤثر في هذه المنظومة من خلال فرض رسوم مرتفعة على البناء، ما يؤدي إلى رفع تكلفة الإنتاج السكني وزيادة أسعار المساكن بشكل عام. وبهذا الشكل، تتحوّل البلديات إلى شريك في دورة النهب والاحتكار، تمامًا كما تفعل البنوك، بينما تبقى حاجات المواطنين خارج المعادلة. وما يُزيد الأمر سوءًا، أن كل هذه المؤسسات – من البنوك إلى البلديات – تخضع في النهاية لمنظومة واحدة، تتفرّع أذرعها من مركز القرار السياسي في مكتب خامنئي.
وفي حين تواصل هذه المنظومة احتكار السوق، يزداد عدد المشردين سنة بعد أخرى. تقرير صادر عن مركز البحوث في مجلس شورى النظام عام 2023 أشار إلى أن البلاد تشهد انتشارًا واسعًا لثمانية أنماط من التشرد، تتراوح بين النوم فوق الأسطح وداخل السيارات، إلى اللجوء إلى القبور، أو تقاسم وحدة سكنية واحدة بين عدة عائلات. هذا التدهور المريع في المستوى المعيشي ليس نتاج ظرف اقتصادي عابر، بل هو حصيلة مباشرة لسياسات مقصودة تُدار من قمة هرم السلطة.
عندما نراجع أسماء المؤسسات المالكة لمعظم العقارات المحتكرة، نجد أن البنوك الرئيسية، ومؤسسة آستان قدس، ومشاريع الإسكان الضخمة التي تديرها الدولة، جميعها تدور في فلك واحد: السلطة السياسية المطلقة لخامنئي. وهكذا يتحول قطاع الإسكان من حق إنساني أساسي إلى أداة سياسية واقتصادية لإخضاع المجتمع وترويضه، حيث يصبح السكن امتيازًا يُمنح أو يُمنع حسب درجة الولاء للنظام.
الواقع يقول إننا لسنا أمام “سوق حرة” أو أزمة إسكان اعتيادية، بل أمام إدارة أمنية واقتصادية للسكن تُستخدم كوسيلة للسيطرة الطبقية والسياسية. إن تجويع الناس، وتجريدهم من القدرة على توفير سقف يحميهم، ليس خطأ في السياسات، بل جزء لا يتجزأ من استراتيجية النظام في ترسيخ حكمه القمعي.
وفي النهاية، تبقى الأسئلة الكبرى بلا إجابة: كيف يُعقل أن تتوفر الملايين من البيوت ولا يُسمح للناس بالسكن فيها؟ من يمنع تطبيق الضرائب على تلك المنازل؟ ولماذا تُمنع مشاريع الإسكان الشعبي الحقيقية من التنفيذ؟ الجواب حاضر في عنوان واحد: خامنئي، حيث تبدأ كل الخيوط وتنتهي.