بقلم – حسين داعي الإسلام:
تدحرج ملفّ المفاوضات النووية إلى قلب المشهد الإيراني، متحوّلاً من مسار دبلوماسي إلى أزمة وطنية شاملة تمسّ كيان نظام الولي الفقيه. الأزمة المتفاقمة لا تقتصر على انقسامات الأجنحة داخل السلطة، بل تهدّد بنية النظام بكاملها، وتكشف تصدعاته في ميادين السياسة، والشارع، والمؤسسات الدينية، والعسكرية.
مأزق الوجود: بين خطاب العداء ومقتضيات البقاء
منذ نشأته، شيّد نظام الملالي مشروعيته على خطاب عدائي زائف تجاه الولايات المتحدة، مطلقًا أوصاف “الشيطان الأكبر” و”العدو الأزلي” على واشنطن، مستخدمًا هذا العداء المعلن كأداة لتعبئة الداخل وقمع الأصوات. لكن مع اشتداد الخناق الاقتصادي، وازدياد عزلة النظام إقليميًا ودوليًا، لم يجد خامنئي مناصًا من العودة إلى الطاولة التي طالما وصفها بالعار.
هذه المفارقة العميقة بين الخطاب والممارسة فجّرت ما يشبه الشلل الاستراتيجي داخل النظام: القبول بالمفاوضات يُعدّ اعترافًا بالعجز وانهيارًا للخطاب الثوري، فيما رفضها يُنذر بعواقب كارثية تشمل العقوبات الخانقة، وربما المواجهة العسكرية.
منابر الجمعة: منابر القلق والتناقض
صدى هذه الأزمة بلغ منابر صلاة الجمعة، حيث تبارى أئمة النظام في إظهار الهواجس والارتباك.
في مشهد، قال الملا علم الهدى مهاجمًا تجربة الاتفاق النووي السابق: «جلسوا وتصافحوا وتبادلوا الابتسامات، ثم مزّقت أمريكا الاتفاق بكل وقاحة».
أما الملا صدّيقي في طهران، فقد أعاد إحياء تعبير خميني الملعون عن علاقة “الذئب بالحَمَل”، مؤكدًا أن أمريكا لا تُؤتمن، فيما حذّر شعباني في همدان من خطر “الاستقطاب الشعبي” داعيًا للالتفاف حول “القيادة الحكيمة”.
هذه الخطب، رغم ظاهرها التحريضي، تعكس حالة انكشاف سياسي وفكري يعيشها النظام، وخوفًا عميقًا من انفجار شعبي لم يعد مستبعدًا.
وفي قاعة مجلس النظام، برز النائب مهدي كوجك زاده مهاجمًا مفاوضات عمان، واصفًا إيّاها بأنها «رمادية وبلا حياء».
قال بصراحة: «نحن لا نعلم شيئًا… ربما مضطرون لهذه المفاوضات، لكن علينا أن نُفرّق بين العدو والصديق».
تصريح يكشف أن المؤسسة التشريعية باتت مغيّبة تمامًا عن قرارات الدولة الفعلية، ويعكس أيضًا تصدّع الثقة داخل قلب النظام.
الاتفاق… انتحار ناعم، والفشل… انتحار سريع
سواء نجحت المفاوضات أو فشلت، فإن النظام مقبل على ثمن باهظ.
الاتفاق سيُجبر خامنئي على التنازل عن خطاب التحدي، ما يعني تآكل شرعيته الثورية، واهتزاز صورته أمام الحرس والباسيج ودوائر المصالح. كما أن الجناح المتشدّد قد يتّجه إلى التصعيد العلني، ما يفتح الباب أمام أزمة ولاء غير مسبوقة داخل البيت الداخلي.
أما الفشل، فسيعني ببساطة: تشديد العقوبات، ترجيح سيناريو المواجهة مع الولايات المتحدة، وتفاقم النقمة الشعبية. تجربة “برجام” السابقة التي وصفها الملا شعباني بأنها “عقدت العُقد بدل أن تحلّها”، تقف كشاهد على عجز النظام التفاوضي.
خامنئي بين المراوغة والعجز
يلعب علي خامنئي دورًا مركّبًا في هذه الأزمة: من جهة، يُبارك المفاوضات عبر الوسطاء، ومن جهة أخرى، يتوارى خلف التصريحات الغامضة هروبًا من أي مسؤولية مباشرة.
إلا أن هذه اللعبة المزدوجة لم تعد مجدية. التصدّع الداخلي، وضغوط الشارع، وانفجار الأجنحة، جعلت العمود الفقري للنظام في مهبّ الريح. تصريحات كوجك زاده عن جهل النواب بالتفاصيل، ليست إلا دليلًا صارخًا على حالة الانعزال المتفاقم داخل دائرة الحكم.
أزمة تهدد النظام … وفرصة للشعب
المفاوضات النووية الجارية ليست فرصة للنظام، بل أزمة وجودية تهدّد بنيانه. لكنها، في المقابل، تُمثّل فرصة تاريخية لقوى التغيير وشرائح الشعب الإيراني التي أنهكتها الفقر والعزلة والبطالة.
الغليان في المجتمع، والتخبط في القيادة، وتهافت الرواية الرسمية… كلها مؤشرات على حالة نضج ثوري كامنة تنتظر لحظة الانفجار.
إنّ مفاوضات عمان النووية وضعت نظام ولاية الفقيه في قلب عاصفة سياسية وأخلاقية. الانقسامات الداخلية، والارتباك في الخطاب، والعجز عن حسم الخيارات، تكشف نهاية مرحلة وبداية تآكل الهيبة المركزية للمرشد.
ما يُقال من فوق المنابر، وما يُصاح في البرلمان، لم يعد كافيًا لإخفاء الحقيقة: النظام يترنّح… والجدار بدأ يتشقق من الداخل.