موقع المجلس:
لسنوات طويلة، سعت الفاشية الدينية الحاكمة في إيران إلى تحويل لبنان إلى قاعدة نفوذ رئيسية في المنطقة من خلال الدعم المالي والعسكري والأيديولوجي لحزب الله. كان الوليالفقیة علي خامنئي يعتبر هذا الحزب خط المواجهة الأول في استراتيجيته الإقليمية، مستخدماً إياه كأداة لتعزيز نفوذ طهران في لبنان وفلسطين وحتى العراق. وكان الدعم المالي والعسكري والأمني المستمر لحزب الله يشكل جزءاً أساسياً من سياسات طهران التوسعية لضمان بقائها.
وبعد تعرضه لهزائم متتالية في الحرب مع إسرائيل، اضطر حزب الله إلى قبول وقف إطلاق النار، مما أضعف قوته بشكل كبير. هذا التطور يمثل نقطة تحول، حيث إن لبنان، الذي كان لفترة طويلة تحت قبضة حزب الله السياسية، يشهد الآن تحولاً في ميزان القوى لصالح حكومته المنتخبة.
وفي ظل هذا التوازن الجديد، لم يعد بإمكان قوة القدس التابعة لحرس النظام الإيراني استخدام ممراتها المعتادة في سوريا لنقل الأسلحة والذخيرة والأموال إلى حزب الله. وبالتالي، أصبح الحزب يعتمد على آخر وسيلة متاحة له، وهي شركات الطيران الإيرانية. لسنوات، كان حزب الله يتلقى حقائب مليئة بالنقد عبر الرحلات الجوية بين طهران وبيروت، والتي كانت تستخدم لتمويل عملياته وشراء الأسلحة والحفاظ على نفوذ طهران في لبنان. لكن، ومع تصاعد الضغوط الدولية وزيادة التدقيق على الأنشطة في مطار بيروت، أعلنت الحكومة اللبنانية الآن حظر الرحلات الجوية المباشرة من طهران.
وقد تم اتخاذ هذا القرار في لحظة حاسمة، حيث كان المسؤولون الإيرانيون يخططون للسفر إلى لبنان لحضور جنازة زعيم حزب الله حسن نصر الله.
وأثار حظر الرحلات الجوية بين طهران وبيروت ردود فعل متباينة من قبل السلطات الإيرانية ووكلائها في لبنان. حاول مسلحو حزب الله إغلاق الطرق المؤدية إلى مطار بيروت لمنع تنفيذ القرار، إلا أن الجيش اللبناني تدخل وأعاد فتح الطريق، مما يعكس تراجع قبضة حزب الله على الأوضاع في البلاد. ويظهر هذا الفشل بوضوح أن الحزب، الذي كان سابقاً الذراع القوية لخامنئي، لم يعد قادراً على السيطرة الكاملة على لبنان، في ظل تزايد الضغوط الداخلية والخارجية عليه.
وفي الوقت نفسه، عبر السفير الإيراني في لبنان عن استيائه قائلاً: “تسعى الحكومة اللبنانية إلى توفير بدائل للرحلات الجوية الإيرانية. نحن نرحب بشكل عام بفتح خطوط طيران لبنانية إلى إيران، لكن ليس بطريقة تؤدي إلى إلغاء الرحلات الجوية الإيرانية. طلب الحكومة اللبنانية سيتم قبوله بشرط ألا يكون هناك تقييد للرحلات الإيرانية في المقابل. هذا النشاط تجاري ويخضع لمنطق السوق، حيث يسعى المسافرون الإيرانيون واللبنانيون إلى الأسعار الأقل كلفة.” (وكالة إيسنا، 14 فبراير ٢٠٢٥)
هذا الوضع يتناقض تماماً مع التصريحات السابقة لخامنئي، الذي كان يتفاخر قائلاً:”اليوم، حزب الله هو في طليعة الدفاع عن الأمة الإسلامية وعن جميع شعوب هذه المنطقة.” (موقع خامنئي، ٣١ يوليو ٢٠٠٦)
وكانت كلفة هذا المشروع الضخم، الذي يقوم على رعاية الميليشيات، تقع بالكامل على عاتق الشعب الإيراني. فعندما فُرضت العقوبات على حزب الله، نقل موقع المنار عن حسن نصر الله في ٢٤ يونيو ٢٠١٦ قوله:”هذه القيود لن تؤثر على حزب الله، لأن جميع مواردنا المالية تأتي من إيران، وليس من البنوك.”
وأضاف:”هذه الأموال تصل إلينا بنفس الطريقة التي تصل بها الصواريخ التي نستخدمها لتهديد إسرائيل.”
وفي مقطع فيديو شهير تم تداوله في ديسمبر ٢٠١٧، صرح نصر الله بصراحة: “سأتحدث بوضوح وشفافية: جميع أموالنا وميزانيتنا وأسلحتنا وصواريخنا تأتي من الجمهورية الإسلامية الإيرانية. طالما أن إيران لديها المال، فسنحصل نحن أيضاً على المال.”
إن حظر الرحلات الجوية بين طهران وبيروت ليس سوى أحد الأدلة العديدة على فشل الفاشية الدينية الإيرانية استراتيجياً في لبنان.
فالمجتمع اللبناني أصبح بشكل متزايد يرفض التدخلات الإيرانية في شؤونه، ويعبر عن سخطه من عمالة حزب الله لطهران. وتزايدت الاحتجاجات الشعبية والانتقادات الصادرة عن جهات سياسية مختلفة، مما يعكس هذا التحول في المواقف.
أما الحكومة اللبنانية، التي كانت في السابق خاضعة لنفوذ حزب الله، فقد بدأت الآن في اتخاذ قرارات تتعارض مع المصالح الإيرانية. هذا الواقع الجديد يضع مستقبل النفوذ الإيراني في لبنان في موضع شك أكثر من أي وقت مضى، ليكون بمثابة دليل آخر على سلسلة الهزائم الاستراتيجية المتتالية التي يتكبدها النظام الإيراني في المنطقة، وخاصة في لبنان.