ديث اليوم
إنّ الرعب من انتفاضتي العراق و لبنان يزداد عمقاً و أثراً في النظام الإيراني یوما بعد یوم، فالانتفاضة -خاصة في العراق- ومع دخول الأسبوع الثالث من الجولة الثانية، قد اجتازت مرحلة القمع المفضوح وها هي تکمل طریقها بقوة وإصرار، وفشل النظام المجرم في إخماد الثورة على الرغم من لجوئه إلی أقصی درجات العنف والوحشية، وتسببه في استشهاد أكثر من 300 شهید وإصابة 12 ألف شخص.
نتيجة لذلك فقد أصبحت الانتفاضات أكثر عمقاً وثباتاً، تستهدف النفوذ الإیراني الإجرامي وتدخلاته السافرة في شؤون بلادها. وبانکشاف انهیار استراتیجیات النظام في المنطقة فقد انتاب الملالي حالة ذعر غیر مسبوقة.
صفعة الانتفاضة في وجه خامنئي
تَصاعدَ هذا الفزع بشكل خاص عندما أدّت تصريحات خامنئي في 30 أکتوبر إلی نتائج عکسیة، والتي أمرَ فیها أزلامه وعملائه في العراق بقمع المتظاهرین، وطالب المتظاهرین بسخرية متابعة مطالبهم المشروعة في إطار النظم والهیاکل القانونیة لا غیر. فمن جانب فشلت الحكومة وأزلامها القمعيون الذين یتلقّون الأوامر من النظام وقوات الحرس في فعلِ ما أراد خامنئي القيام به ولم یتمکنوا من قمع الانتفاضة أو على الأقل إیقافها. ومن جانب آخر وفيما يتعلق بالناس، فقد كانت تصريحات خامنئي بمثابة وقودٌ تم سكبه علی نيران الغضب والكراهية للنظام لدی الشعب العراقي وأججّ حماسهم. و منذ ذلك الوقت، تزاید غضب الشعب العراقي وکراهیته للنظام وتصاعدت ردود الأفعال إزائه: من الهجوم على سفارة النظام في بغداد والقنصلية في كربلاء إلى إنزال لوحة خميني الدجال من أحد شوارع النجف ودهس صور ولافتات خمیني وخامنئي وقاسم سلیماني الدعائیة في مدن عراقية مختلفة، ونتيجة لذلك لم يذكر خامنئي العراق في خطابه التالي في 3 من نوفمبر قطّ.
عراقيون غاضبون يحاصرون القنصلية الإيرانية في كربلاء ويطالبون باخراج النظام الإيراني
جولة في تصریحات قادة النظام وما نقلته وسائل الإعلام الحكومية توضح لنا جوانب أخری من أسباب قلق النظام:
في خطابه یوم الخمیس السابع من نوفمبر حول مستجدات الانتفاضة في العراق ولبنان، أشار اللواء “باقري” القائد العام لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة إلى “مؤامرات العدو” التي سعت إلى «إرساء الحكومات المرتزقة في هذه البلدان من خلال استغلال مطالب الشعب المشروعة». تصریح اللواء هذا یعني أنّ النظام يريد الحفاظ على الحكومات وهياكل الحكم الفاسدة في العراق ولبنان.
“باقري” أردف قائلا: «يعتقد الأعداء أنّ محور المقاومة یتعرض للهجوم بواسطة هذه المؤامرات. لقد برهن الشعب العراقي في الأربعين الحسيني عن کرمه وضیافته، وأحیا ملحمة الأربعین». هذا التصریح وبلغة معکوسة ما هو إلّا اعترافا واضحا بإنهزام النظام الذي لجأ من فرط غبائه وسذاجته إلى تصوير الأربعين باعتباره ورقة النظام الرابحة ومصدر قوته لیبرهن أنه یتمتع بقاعدة جماهیریة واسعة في العراق في حین أنّ انتفاضة العراق قد أحرقت ما یسمیها النظام بـ “ورقة القوة”، وعلی العکس من ذلك فقد أثبتت الانتفاضة مدی غضب وحقد وکراهیة الشعب العراقي برمته تجاه نظام الملالي الإیراني. إنّ حرق الورقة المزيفة للقاعدة الشيعية الموالیة للنظام الإیراني في العراق هو الإنجاز المهم الأول لانتفاضة تشرين العراقية.
بغض النظر عن شعوذة النظام المعتادة وتزییف الحقائق من قبل أجهزة النظام الترویجیة وأبواقه الدعائیة، فمن الواضح أنّ النظام ينظر إلى الانتفاضة العراقية على أنها تهديد لوجوده وسیادته وهو علی صواب لأن العراق مهم استراتيجياً للنظام ولا یمکنه الاستغناء عنه بسبب موقعه الاستراتیجي في المنطقة والذي یساعده في تخطي العقوبات وبالتالي فإنّ انهيار العمق الاستراتيجي للنظام في العراق، یعقبه انهیار إحدى الركائز المهمة للنظام. وكما جاء في الرسالة رقم 15 لزعيم المقاومة الإيرانية فإنّ: «انتهاء حکم النظام الإیراني في العراق وطرده منه هو نهایة حکم الولي الفقیه».
مأزق الولي الفقيه في العراق
من الواضح أن الولي الفقيه لن يتخلى عن العراق بهذه البساطة، نظرًا لأهمية العراق الكبيرة والمكانة التي تحظي بها في استراتيجية الولي الفقيه، ولن يتورع عن ارتكاب أي جريمة للحفاظ على هيمنته على العراق؛ ولكن الحقيقة هي أنه غير قادر على أن يفعل ما يشاء في العراق. والسبب الأساسي في ذلك هو أن العراق لديه سيادة مزدوجة، حتى أن حكومة المالكي التي كانت تابعة تمامًا للولي الفقيه اضطرت إلى التنسيق مع أمريكا في الوقت نفسه؛ نظرًا لأن الولي الفقيه ليس لديه السيادة المطلقة في العراق.
لكن العامل الأكثر أهمية وحسمًا هو الانتفاضة نفسها، وكون أن الثوار أحبطوا قمع الولي الفقيه بصمودهم وشجاعتهم، فهذا لا يعني أن القمع لم يعد أشد قسوة مما كان عليه حتى الآن، ولكن الانتفاضة ليست مرعوبة وخامدة، بل أصبحت أقوى وأكثر تنظيماً بموجب التجربة الموضوعية التي تمت في الشهر الماضي، واستطاعت أن تثبت نفسها بشكل أكبر مقارنة بالأيام الأولى لها وأن تكتسب اعترافًا دوليًا نسبيًا بالاعتماد على نفسها. وهذا إنجاز آخر من إنجازات الانتفاضة.
بومبيو: الأحرار في لبنان والعراق لا يريدون أن يكونوا جزءا من ميليشيات النظام الإيراني
أمريكا تعترف نسبيًا بالانتفاضة
ويمكن إدراك علامات هذا الاعتراف النسبي في تصريحات كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية وبعض المسؤولين الدوليين الآخرين ومواقفهم، فيما يلي:
ورد في بيان الأمين العام للأمم المتحدة في 6 نوفمبر 2019 : “ما يدعو إلى القلق أن التقارير تتحدث عن استمرار استخدام العتاد الحربي ضد المتظاهرين في العراق”. ودعا إلى إجراء دراسة جادة حول أعمال العنف.
وأشار الرئيس الأمريكي ترامب في تغريدته على تويتر إلى خبرين، أحدهما يدور حول “إحراق جدار قنصلية نظام الملالي في كربلاء” والثاني يدور حول “اقتحام عشرات المتظاهرين قنصلية نظام الملالي في كربلاء وإنزال علم نظام الملالي وإحراق جزء من الجدار الخارجي للقنصلية ” .
كما قال وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في تغريدته على تويتر: “إن العراق ولبنان يستحقان الحرية وتقرير مصيرهما دون تدخل ولي فقيه نظام الملالي، علي خامنئي”.
كما قال مايك بومبيو: “إن الشعبين العراقي واللبناني يريدان استرداد بلديهما. ولقد أدرك البلدان زيف ثورة نظام الملالي التي لم تجلب شيئًا إلى المنطقة سوى الفساد”.
تحطيم صنم الولي الفقيه في المنطقة
والجدير بالذكر أن الولي الفقيه تمكن حتى وقت سابق من إقناع أمريكا والأطراف الأخرى بأنه لديه قاعدة شعبية ويتمتع بدعم شعبي في العراق، وأنه يهيمن على الشيعة تمامًا، ويعمل مع العراق فعليًا ولا سيما في مدن العتبات المقدسة وكأنها جزء من الأراضي الإيرانية؛ من خلال القيام باستثمارات سياسية ودعائية ضخمة، والأكاذيب وبعض الاستعراضات مثل الأربعين الحسيني. إلا أن انتفاضة الشعب العراقي أحرقت هذه الورقة وهذه الأكاذيب تمامًا، وكل من ينظر إلى الوضع يستنتج أن الشعب العراقي مستاء من الولي الفقيه قدر استياء الشعب الإيراني، واستعد للإطاحة بسلطته المشؤومة من وطنه. والفرق هو أن الولي الفقيه يتمتع بالسلطة المطلقة في إيران، ولذلك يفرض قمعًا مطلقًا، والوضع في العراق ليس كذلك.
وهكذا يمكن القول إن الانتفاضة العراقية أيضًا أحرقت صنم الولي الفقيه المتطرف على الصعيد الإقليمي، مثلما فعلت انتفاضة 2009، التي حطمت صنم خامنئي في إيران، ومنذ ذلك الوقت فصاعدا انزلق خامنئي في مرحلة الهبوط وباءت مشاريعه الاستراتيجية ومن بينها توحيد نظامه فشلت. وفي هذا الصدد، كتب وليد فارس ، المحلل السياسي الأمريكي اللبناني البارز، في مقال نشر في جريدة الإندبندنت بعنوان “بداية فشل المشروع السياسي الإيراني في الشرق الأوسط” : ” إن التطورات خلال الأسبوعين الأخيرين في العراق ولبنان تدل على نجاح الانتفاضات الشعبية. ويبدو أن هذه المظاهرات استطاعت أن تتجاوز الخطوط الحمراء للأنظمة السياسية في كلا البلدين، وأن تدخل في مرحلة من مراحل النصر، ولم يعد أمام الحكومات فرصة لقمعهما”.
وعلى هذا النحو، غيرت انتفاضة وإرادة الثوار حقائق مهمة في لوحة شطرنج السياسية الإقليمية والدولية المتعلقة بالعراق، وأحدثت الفرق. والأهم من ذلك، أنها فرضت نفسها كمعيار مهم وحاسم في المعادلات السياسية.