حازم صاغية- الحياة: لم يتجلّ انقسام اللبنانيّين كما تجلّى يوم الخميس الماضي: كتلتان جماهيريّتان بهمّين وشعارين وهدفين وتصوّرين لا يتّصل واحدهما بالآخر إلاّ اتّصال الضدّ بضدّه.
ويستطيع من يريد أن يعدّ تعابير لا تُحصى عن الانشطار هذا، بعضها فعليّ وبعضها رمزيّ، بعضها في السياسة وبعضها في الاجتماع والتنظيم. غير أن التعبير الأهمّ يتجسّد في النظر الى الذات الوطنيّة والى دورها. فقد ركّز الأكثريّون على انتخاب رئيس للجمهوريّة وعلى تفعيل البرلمان وسائر المؤسّسات، فكانت هذه الموضوعة الأشدّ تكراراً في سائر خطب «ساحة الحريّة».صحيح أن الدعوة حملتها لغة مفكّكة، مزجّلة أحياناً مسجّعة أحياناً أخرى، وقد اختبأت وراءها مخيّلة جديبة وصور بائسة وذهنيّة ضيّقة ريفيّة، كما رفدتها مدائح بائخة كان ينبغي تجنّبها وبلادة في إعلاء «المرجعيّات» و «قداستها». وصحيح أن الدعوة تلك تلاقي رغبة أميركيّة وتصوّرات استراتيجيّة غربيّة للمنطقة في منتصف طريق ما.
لكن هذا كلّه لا يلغي أن محطّ التركيز داخليّ يستند الى تلك الأولويّة ويرى الى العالم والأدوار انطلاقاً منها.
وينقلب نظام الأولويّات، في المقابل، انقلاباً تامّاً عند تشييع عماد مغنيّة حيث كانت خطبة واحدة لرجل واحد أحد. فحين يقال إن اغتيال مغنيّة لم يحصل فوق «الأرض الطبيعيّة» للصراع، فهذا معناه أن لبنان هو تلك الأرض، وهو هكذا، «طبيعيّاً» أي تلقائيّاً، فيما سوريّة حيث لا يزال الجولان محتلاًّ، تندرج خارج هذه «الطبيعيّة».
وحين يقال إن حرب تمّوز مستمرّة، فهذا معناه أن ما أملاه القرار 1701 من استقدام للقوّات الدوليّة، مُلغى ومحذوف. فإذا أضفنا أن الجيش اللبنانيّ، بعد أحداث الضاحية الجنوبيّة الأخيرة، قُدّم كأداة منحازة، أو مطعون في شرعيّة عملها، بينما الحكومة «فاقدة الشرعيّة»، ورئاسة الجمهوريّة شاغرة، والبرلمان معطّل، بتنا، نظريّاً، وربّما في غد قريب عمليّاً، أمام الالتحام المباشر بين إسرائيل و «حزب الله».
وأغلب الظنّ أن إسرائيل نفسها في هذا الوارد، بعد تقرير فينوغراد ورغبتها العارمة في الالتفاف على تقصيرها العسكريّ في حرب تمّوز. فإذا ما توسّع الاشتباك في غزّة، تعاظمت تلك الرغبة الإسرائيليّة وتعاظمت معها رغبة الأطراف الممانعة في المشاركة الحربيّة.
وهي، بالتأكيد، ليست معركة بداية انهاء اسرائيل، على ما وعد أمين عام «حزب الله» بزجل حماسيّ أفصح من زجل الـ14 آذاريّين وأبلغ. فهذا كأنّنا سمعناه قبلاً على ألسنة قادة عرب كثيرين. لكن ما يُخشى هو أن تكون تكراراً، من نوع أو آخر، لاجتياح 1982 عندما تُرك لبنان وحده في مواجهة فجيعته.
فإذا ما قُيّض لهذا السيناريو الكابوسيّ أن يتكرّر، اندفعت نظريّة «الساحة» الى أعلى تجليّاتها، فخيضت باللبنانيّين حرب التسلّح النوويّ والنفوذ الإقليميّ الإيرانيّين. وهذه سوف تكون الحرب الإيرانيّة – الإسرائيليّة الثانية فوق مسرحها «الطبيعيّ» الذي هو لبنان. فحتى توقيع معاهدة كامب ديفيد، كان النزاع مع إسرائيل نزاعاً مصريّاً أساساً. ومع خروج مصر من الصراع، صار الاستمرار فيه، في ظلّ عنوان «التوازن الاستراتيجيّ» السوريّ، مطّاً مصطنعاً له يدفع كلفته اللبنانيّون والفلسطينيّون، على ما تشهد حروب الثمانينات الصغيرة. فعندما سقط الاتّحاد السوفياتيّ، أمست الإدامة الاصطناعيّة أشدّ اصطناعيّة، حتى كادت تجاور الوهم المحض.
أما اليوم، وفي ظلّ الصعود الإيرانيّ، فيُراد بعث النزاع وتوسيعه وتأجيجه، لا طلباً لدولة فلسطينيّة هي موضع امتعاض وازدراء، بل لتحسين طهران موقعها التفاوضيّ حيال واشنطن. وأن يكون اللبنانيّون، بإرادة جزء ضخم منهم، الضحايا «الطبيعيّين» لنزاع كهذا، فتفصيلٌ بسيط يرقى التشكيك به الى مصاف الخيانة