الحياة – نواف عبيد: نجح رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الأمير تركي الفيصل في أن يُضفي على المؤتمر السنوي للمعارضة الإيرانية في الخارج، الذي استضافته العاصمة الفرنسية باريس أخيراً، أهميةً كبيرةً لم يسبق أن شهدها المؤتمر الذي تنظّمه منظمة مجاهدي خلق الإيرانية منذ سنوات طويلة. وجاءت مشاركة الفيصل في ظلّ خلاف إقليمي بين السعودية وإيران؛ بسبب سعي طهران إلى التدخّل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، واستخدام ميليشياتها في هذه الدول لفرض أجندتها الخاصة.
كانت مشاركة الأمير تركي الفيصل في مؤتمر باريس مدروسةً بدقةٍ من رجلٍ ظلّ في سدّة أهم أجهزة الدولة المعلوماتية ربع قرنٍ من الزمان، ودبلوماسي يحظى بمكانةٍ مرموقةٍ في كثير من المحافل الدولية؛ لذلك منحت مشاركته المعارضة الإيرانية زخماً كبيراً سيؤسِّس حتماً لما بعده، وصدًى إعلامياً جعل المؤتمر المهمَّش على مدى سنوات كثيرة يحتلّ صدارة اهتمام وسائل الإعلام.
لقد حرّكت كلمة الأمير تركي الفيصل مياه المعارضة الإيرانية الراكدة، وأصابت النظام الإيراني بالهلع بعد أن نكأ الفيصل جراحه، وأثبت له أن بإمكان السعودية الدولة أن تقضّ مضجعه، لكنها تربأ بنفسها أن تتدخّل في الشؤون الداخلية لغيرها من الدول. وليس أدلّ على هذا الهلع الذي أصاب النظام الإيراني من إصدار وزارة الخارجية الإيرانية بياناً يردّ على مشاركة الفيصل في المؤتمر، وتصريحات حسين أمير عبداللهيان – مستشار وزير الخارجية الإيراني- في هذا الإطار، وهي تصريحات تدلّ على خواء النظام الإيراني، خصوصاً أن الأمير تركي الفيصل يشارك بصفة شخصية؛ لأنه لا يشغل أيّ منصب رسمي في الدولة حالياً. كما أن كلمته في المؤتمر فرّقت بوضوحٍ بين حضارة الشعب الإيراني وتراثه الفريد وبين نظامه الحاكم الذي اتّخذ من مفهوم (ولاية الفقيه) وسيلةً لفرض سيطرته على كلِّ شيء داخل إيران، وعلى علاقتها بغيرها من الدول؛ حتى أصبحت إيران دولةً منعزلةً وعدوانيةً، وأصبح الشعب الإيراني نفسه هو أول ضحايا هذه السياسة الخارجية الانعزالية والتدخّلية. ولم يكن الأمير تركي الفيصل الشخصيةَ العربيةَ الوحيدةَ التي شاركت في المؤتمر، بل شارك فيه عدد من البرلمانيين العرب، وشخصيات مرموقة من مختلف دول العالم.
أقلق هذا الزخم الكبير، الذي منحه الأمير تركي الفيصل لمؤتمر باريس، بعض الأصوات، فراحت تكيل الانتقادات للأمير على مشاركته في المؤتمر بحجة أن من تنظّمه هي منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، وكأن المسؤول الاستخباراتي السعودي الأسبق، والدبلوماسي المحنّك، لا يعرف شيئاً عن هذه المنظمة التي شطب الاتحاد الأوروبي اسمها من قائمة المنظمات الإرهابية على إثر صدور حكم من المحكمة الأوروبية في لوكسمبورغ بذلك، كما سبق أن فعلت الشيء نفسه الولايات المتحدة الأميركية، وكأن الأمير حضر إلى المؤتمر ليُلقي كلمةً فيه وهو لا يعرف مَن دعوه إليه. إن من يتبنّى مثل هذا الطرح يبدو ساذجاً، وجاهلاً، ولا يعرف شيئاً عن أبجديات السياسة، فضلاً عن سطحيّته في تناول الأمور؛ لذلك لم تتجاوز انتقاداتهم مجرّد المظاهر الشكلية، ولم نَرَ منهم أيّ نقدٍ علمي ينفذ إلى مضمون الكلمة التي ألقاها الأمير، ووضع من خلالها كثيراً من النقاط على الحروف.
ولم يُضارع سذاجة هؤلاء في نقدهم مشاركة الأمير تركي الفيصل في مؤتمر منظمة مجاهدي خلق الإيرانية سوى آخرين دفنوا رؤوسهم في الرمال، وغضّوا الطرف عن ممارسات النظام الإيراني في المنطقة، فصوّبوا سهام نقدهم إلى مشاركة الأمير، ووصفوها بأنها تدخّل في الشؤون الداخلية الإيرانية، وأنها قد تدفع النظام الإيراني إلى دعم المعارضة السعودية – إن وجدت -. لقد تناسى هؤلاء من فرط غشاوة أبصارهم، وزيغ قلوبهم، أن إيران لا تدّخر جهداً في سبيل النيل من المملكة، وأنها لا تكفّ عن إثارة القلاقل فيها ليل نهار، ولا تتورّع عن التدخل في الشؤون الداخلية لمختلف دول المنطقة؛ فهي تدعم الحوثيين في اليمن، وتقاتل مع بشار الأسد في سورية، وتعيث فساداً في العراق ولبنان وغيرهما من مختلف دول العالم. ومما يُثير السخرية من هذه الأصوات التي تنادي بعدم التدخّل في الشأن الداخلي الإيراني أنها كانت بالأمس أوّل من بادر إلى تأييد الانقلاب العسكري الفاشل على الحكومة التركية الشرعية الصديقة، في دلالةٍ واضحةٍ على جهلهم، وكأن الله عزّ وجلّ يأبى إلا أن يفضحهم ويكشفهم على مشهدٍ من الجميع بعد أيامٍ قليلةٍ من انتقاداتهم.
ومن المُضحك أيضاً أن بعض الأصوات انتقدت إشارة الأمير تركي الفيصل في كلمته إلى كتاب الشاعر الفردوسي (الشاهنامة، أو ملحمة الملوك)، الذي اتّسم بالعنصرية في تناوله، مع أن هذه الإشارة تمثّل وعياً وإنصافاً من الأمير؛ فعلى رغم مآخذنا على الكتاب إلا أننا لا يمكن أن نتجاوزه بوصفه نصاً أدبياً معروفاً. كما أن الأمير ذكر الكتاب في سياق حنين الثقافة الفارسية إلى تاريخها، وأشار إلى هذه السمة في الكتاب تحديداً؛ فذكر أن الفردوسي كان حريصاً في أثناء كتابته على أن يتجنّب تأثير اللغة العربية في مفرداته؛ لأنه أراد أن يخلق ملحمةً فارسيةً صيغت في نثر فارسي خالص.
بقيت نقطة مهمة ينبغي أن نُشير إليها في كلمة الأمير تركي الفيصل في مؤتمر باريس، وهي إشارته إلى حركة حماس الفلسطينية ضمن المنظمات التي دعمها النظام الإيراني لإثارة الفوضى في المنطقة؛ فإشارة الأمير تحمل رسالةً مهمةً إلى مسؤولي حماس رداً على تصريحاتهم الأخيرة وإشادتهم بالدعم الإيراني للحركة. رسالة مضمونها أن علاقة إيران بحماس معروفة للجميع، وإذا كانت حماس قد استفادت من الدعم الإيراني في وقت سابق فعليها الآن اتّخاذ موقف حاسم من غير تباطُؤ مع نظام إيراني ساهم في قتل وإصابة نحو مليوني سوري، وتشريد أكثر من نصف الشعب، فضلاً عما جناه هذا النظام في العراق وغيره من الدول العربية الأخرى. فلا يمكن أن يستحضر مسؤولو حماس دعم النظام الإيراني لهم الآن، ويُثنون عليه، وإخواننا في سورية وغيرها تُراق دماؤهم على أيدي هذا النظام الذي يعيث فساداً في المنطقة كلّها.
ونؤكّد هنا أن الأمير تركي الفيصل لا يسعى إلى إسقاط النظام الإيراني بالتعاون مع المنظمات الإيرانية المعارضة في الخارج، وإنما يسعى إلى كشف حقيقة هشاشة هذا النظام وضعفه أمام العالم كلّه، ويعي جيداً أن إسقاط هذا النظام أو استمراره يتوقف على قرار الشعب الإيراني وحده. ولا شكّ أن مثل هذا المشروع الكاشف سيستمرّ، سواء من الأمير تركي الفيصل أم من غيره من مفكّري العالم وسياسييه.
في النهاية، كانت مشاركة الأمير تركي الفيصل في مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس واضحةً حاسمةً، وجاءت كلمته جليّةً كاشفةً، مُخلّفةً أصداءً مهمةً؛ فهي تقول لمنتقديه: هل وعيتُم الدرس؟
* أكاديمي وباحث سعودي.